تقديم العدد -14- الخاص حول موضوع قضية الصحراء المغربية : مقاربة تاريخية وقانونية
د.محمد بنطلحة الدكالي
تطلعنا الجيوستراتيجيا بأن أبرز مشكلات الأقاليم السياسية في العالم، وليست المنطقة المغاربية استثناء، هي التنافس القويّ بين دول كلّ إقليم على احتلال مكانة الدولة المركزية في الإقليم، نظرًا إلى أنّ الوصول إلى هذه المكانة يجعل كلّ تفاعلات العالم مع الإقليم تمرّ عبْر إرادتها، ويمكِّنها من تكييف كلّ تلك التفاعلات لمصلحتها. وكلما كان التفاوت في موازين القوى بين وحدات الإقليم السياسي أكبر، كان التنافس في مصلحة القوة الكبرى، في حين يشتد التنافس كلما كانت موازين القوى بين تلك الوحدات أكثر تقاربًا. وتتغذَّى مظاهر هذا التنافس – على الدولة المركزية بين القوى الإقليمية المتقاربة – على مجموعة من المتغيرات ذات الصبغة التاريخية أحيانًا، أو المعاصرة والمتجدِّدة أحيانًا أخرى، فتبدو تلك المتغيرات، في نظر مجموعة من الباحثين، اختلافات في الاختيارات والتوجهات الإستراتيجية لكلّ من أطراف المنافسة.
ضمن هذا المنطق، وبالنظر إلى المتغيرات التي يشهدها العالم من حيث تبدّل الاستراتيجيات وتنامي المخاطر العابرة للحدود وتصاعد أهمية الاقتصاد في الارتباطات الدولية في مقابل تراجع البعد الأيديولوجي، وكذا التحولات التي مسّت أركان النظام الدولي مع تطوّر مفهوم السلم والأمن الدوليين، وحدوث تغيّر على مستوى موازين القوى الدولية والإقليمية، تروم المملكة المغربية تكييف سياستها الخارجية مع هذه المتغيرات، دون إغفال ضرورة استحضار ثوابت ومحددات هذه السياسة؛ إذ تمكن المغرب، في السنوات الأخيرة، من خوض مجموعة من المحطات الضاغطة، التي واجهت مصالحه الحيوية، وهو ما مَثّل مناسبة للوقوف على الملامح الجديدة التي باتت تطبع هذه السياسة انطلاقا، على الأقل، من ثلاثة مرتكزات جوهرية، بدءا بالحرص على التمسك بالشرعية الدولية واستقلالية وسيادة القرار الداخلي، ومرورا بتنويع الشركاء على المستوى الدولي، وانتهاء بالواقعية والبرغماتية الدبلوماسية في التعاطي مع مختلف التطورات الدولية من خلال الانفتاح، إلى جانب شركائه التقليديين، على بلدان أخرى، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، الصين وروسيا والبلدان الأربعة المنتمية لـ”مجموعة فيسغراد”، التي تتزايد أهميتها وتأثيرها على المشهد الأوروبي.
يحفل تاريخ المغرب بعديد الدروس والإنجازات، التي تؤكد قدرته الدائمة على التأقلم مع الأزمات وتجاوزها، بفضل العلاقة المتينة التي تربط المغاربة الأحرار بملكهم ووطنهم، واستعدادهم الطوعي للتضحية دفاعا عن أمن ووحدة أراضيهم. ومن ينظر بواقعية للتطورات الأخيرة التي تشهدها قضية الوحدة الترابية، سيدرك أن المغرب تمكّن في العقد الأخير، من تحقيق مكتسبات مهمة، على الصعيدين الإقليمي والدولي، لصالح الموقف العادل والشرعي للمملكة، بخصوص تبعية الصحراء الفعلية لسيادتها بالنظر إلى الحجج التاريخية والجغرافية والبشرية التي تثبت ذلك.
نستحضر في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر، تعبير العديد من الدول الوازنة عن دعمها، وتقديرها الإيجابي لمبادرة الحكم الذاتي، في احترام لسيادة المغرب الكاملة على أراضيه، كإطار وحيد لحل هذا النزاع الإقليمي المفتعل. والأكيد أن الموقف الثابت للولايات المتحدة الأمريكية شكل حافزا حقيقيا لم يتأثر بتغير الإدارات أو بالظرفيات. والأمر نفسه ينسحب على الجارة إسبانيا -وهي الأدرى بأصل النزاع وحقيقته- التي اتخذت موقفا واضحا ومسؤولا يدعم مقترح المغرب القاضي بمنح حكم ذاتي لجهات الصحراء. وقد أسس هذا الموقف العقلاني والجريء، لمرحلة جديدة من الشراكة المغربية الإسبانية، يتوقع أن تظل صامدة أمام الظروف الإقليمية، والتطورات السياسية الداخلية.
وأمام هذه الديناميات والتطورات الإيجابية، التي تهم دولا من مختلف القارات، قال الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب: “إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”. وهي رسالة موجهة إلى الجميع مفادها ضرورة اعتماد بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، قرارات واضحة بخصوص مغربية الصحراء، تخرجها من حالة الغموض التي تجعل مواقفها محاطة بعديد التأويلات والالتباسات.
وبوجه عامّ، ولئن كانت المملكة واضحة في اختياراتها بشأن طبيعة الشراكات الدولية التي تتطلع إليها في مسار استكمال وحدتها الترابية، يبدو أنها واعية بالقدر نفسه بأهمية العناية برفع القدرات الذاتية، أي أنها مدركة لما تشكله وحدة الجبهة الداخلية من قوة دفع لتعزيز التعبئة الشاملة، والالتفاف الجماعي دفاعا عن المصالح الوطنية العليا. لذا، حرصت السلطة السياسية، من جهة، على توسيع مشاركة السكان من خلال توفير فضاءات وآليات دائمة للحوار والتشاور، بما يتيح تملكهم للبرامج، والانخراط في تنفيذها، ومن جهة ثانية، تفعيل المقتضيات القانونية، المتعلقة بنقل الاختصاصات، من المركز لهذه الجهات، ودعمها بتحويل الكفاءات البشرية، والموارد المادية اللازمة، في أفق تعميم هذه التجربة، على باقي جهات المملكة. وبهذا، يوضع سكان الأقاليم الجنوبية وممثليهم أمام مسؤولياتهمبعد توفير الآليات المؤسسية والتنموية لتدبير شؤونهم، وإبراز قدراتهم في النهوض بتنمية المنطقة، ولا سيما أن أبناء الصحراء الحقيقيين، الوطنيين الصادقين والأوفياء لروابط البيعة، معروفين، منذ القدم، بأنهم كانوا، دوما، رجال تجارة وعلم، يعيشون من جهدهم، بكرامة وعزة نفس.
ولعلّ توجيه البحث العلمي الرصين-كما تكشف مساهمات هذا العمل القيّم والغنيّ الذي تشرف عليه إدارة مجلة شؤون استراتيجية- إلى البحث في الأسس التاريخية والقانونية لقضية الصحراء المغربية في علاقة بديناميات الحكم الذاتي ورهاناته، يجعل هذا الجهد الجماعي نوعيّاً ومفيداً لعموم الدارسين والمهتمين بالثابت والمتحول في هذه القضية. وبوجه عامّ، شكّل المجال الصحراوي امتدادًا جغرافيًا وتاريخيًا وعمقًا إستراتيجيًا مهمًا للدولة المغربية، وظل معروفا بالتبعية الفعلية للمغرب، ومن دون شك، فالحجج التاريخية والجغرافية والبشرية تؤكد، كما تكشف مجموعة من الأوراق، المطالب المغربية بالصحراء الغربية. ويتضح من خلال التطورات التي عرفها ملف الصحراء المغربية، منذ نشأتها إلى اليوم، أنّ المسألة في جوهرها نزاع مغربي – جزائري. وهذه الموضوعة التي تُعدّ من البديهيات بالنسبة إلى المغاربة، جرى تأكيد حقيقتها مع التغيرات التي طرأت على شبكة الأطراف المتدخلة في النزاع المفتعل.